المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
السيد يسين
السيد يسين

أمراض الديمقراطية!

الخميس 16/أبريل/2015 - 10:46 ص

تلقيت الدروس الأولى في القانون الدستورى في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية في السنة الأولى عام 1953 على أستاذين جليلين. الأول هو الدكتور «عبد الحميد متولى» وكان استاذا محافظا من الناحية الفكرية، ولكنه كان موسوعة سياسية متحركة، وهو الذى علمنا لأول مرة الفروق الأساسية في مجال النظم السياسية بين النظام البرلمانى والنظام الرئاسى.

والأستاذ الجليل الثانى هو الدكتور «سعد عصفور» وكان أستاذا تقدميا بل وثوريا اختلف مع ثورة 23 يوليو 1952، وكان يعقد ندوات في الكلية يحضرها الطلبة ويطالب فيها بعودة الجيش إلى ثكناته، واستئناف المسار الديمقراطى السابق. كان جيلى من الطلبة يحسون أنهم أبناء الثورة، ويعترضون على آرائه، ولكننا كنا نحترمه ونجله كثيرا لعلمه الغزير وديمقراطيته في التعامل مع الطلبة.

وقد لفت نظرنا أستاذنا «عبد الحميد متولى» في محاضراته الغزيرة -وهو يستعرض النظام السياسى الفرنسى والذى كان نظاما برلمانيا- إلى أنه يمثل ما أطلق عليه «أمراض الديمقراطية».

وكان يعنى بذلك تحديدا أنه نظرا للتنافس الحزبى العميق بين الأحزاب الفرنسية اليمينية والوسطية واليسارية لم يكن من الممكن تشكيل حكومات ائتلافية متناسقة. إذ كان سرعان ما يدب الخلاف بين أعضائها، مما كان يدفع برئيس الجمهورية -والذى كان منصبه ثانويا في النظام البرلمانى وسلطاته مقيدة ـ إلى إقالة الوزارات وتشكيل وزارات جديدة، بناء على تحالف حزبى جديد سرعان ما ينهار وهكذا كانت الحياة السياسية الفرنسية تدور في حلقة مفرغة مما جعل أستاذنا يعتبرها نموذجا لأمراض الديمقراطية!

والنظام البرلمانى هو نظام ديمقراطى للحكم حيث تستمد السلطة التنفيذية شرعيتها الديمقراطية من السلطة التشريعية (البرلمان) وتحاسب عن أعمالها أمامه. وهكذا يمكن القول إنه في هذا النظام فإن السلطة التنفيذية ترتبط ارتباطا عضويا بالسلطة التشريعية. وفى النظام البرلمانى فإن رئيس الجمهورية يكون بالضرورة شخصا آخر غير رئيس الحكومة، وذلك يعكس النظام الرئاسى الذى يكون فيه رئيس الجمهورية هو نفسه رئيس الحكومة. وفى الوقت نفسه لا تستمد السلطة التنفيذية شرعيتها من السلطة التشريعية.

وقد تكون النظم البرلمانية في بلاد ملكية دستورية حيث الملك هو منصب شرفى في حين أن رئيس الحكومة يأتى غالبا من البرلمان.

وقد يوجد هذا النظام أيضا في جمهوريات ديمقراطية، حيث يكون رئيس الجمهورية أشبه ما يكون منصبا شرفيا. وفى مجال بيان ميزات النظام البرلمانى أنه أسرع وأيسر في مجال إصدار العشرينيات، ما دامت السلطة التنفيذية تتشكل بدعم مباشر أو غير مباشر من السلطة التشريعية، وعادة ما يكون بعض الوزراء من أعضاء البرلمان.

ولكن هناك عيوب جسيمة لهذا النظام لا يتسع المقام لتعدادها، وإن كانت ظاهرة أمراض الديمقراطية تلخصها في عبارة موجزة، لأنها تعنى تغيير الوزارات بصورة دائمة مما يعنى انقطاعات لا نهاية لها في المسار الديمقراطى قد تؤدى في النهاية إلى شلل تام للنظام السياسى. وهذا ما حدث بالفعل في فرنسا حيث انهارت الجمهورية الرابعة التى سادها النظام البرلمانى عام 1958.

وقد دعا بطل المقاومة الفرنسية الشهير الجنرال «شارل ديجول» لإنقاذ النظام السياسى الفرنسى حيث أصدر دستورا جديدا عام 1961 وغير فيه النظام البرلمانى ليصبح نظاما رئيسيا، وذلك بتأسيسه الجمهورية الخامسة وأصبح بالانتخاب رئيسا للجمهورية حيث حكم فرنسا من 8 يناير 1959 إلى 28 أبريل 1969 مما جعل فرنسا تشهد فترة لامعة تحت رئاسته الملهمة.

والنظام الرئاسى يقوم أساسا على أن رئيس الدولة هو صاحب السلطة التنفيذية بشكل كامل ولا يوجد مجلس وزراء مستقل كما هو كائن في النظام البرلمانى، ولا توجد قرارات تخرج عن إرادة غير إرادته.

في ضوء هذه البيانات الموجزة عن كل من النظام البرلمانى والنظام الرئاسى يمكن القول إن الدستور المصرى الجديد الذى صيغ بعد ثورة 25 يناير اختلق نظاما سياسيا وسطا بين النظام الرئاسى والنظام البرلمانى.

وذلك لأنه أجرى نوعا من مقاسمة السلطة بين رئيس الجمهورية والذى له سلطات واسعة -مثله في ذلك مثل وضعه في النظام الرئاسى- والبرلمان الذى أعطى له سلطات يتقاسمها مع رئيس الجمهورية.

والواقع أن الدستور المصرى الجديد بالرغم من تقدميته وتنفيذه العديد من المطالب الثورية لثورة 25 يناير هو تعبير عن الإرادة الشعبية في دستور ديمقراطى لا يعطى السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية، ولكنه في الواقع في إعطائه سلطات معينة للبرلمان كان يفترض أن هذا البرلمان سيتشكل بشكل متجانس عبر انتخابات ديموقراطية حرة تعكس القوى السياسية المختلفة في اتجاهاتها، والتى تتوزع في كل البلاد الديمقراطية بين اليمن والوسط واليسار.

ولكن ثبت من الممارسة العملية سواء بعد ثورة 25 يناير مباشرة أو بعد الانقلاب الشعبى في 30 يونيو على حكم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية أن هذا الافتراض الذى صيغ على أساسه الدستور لا أساس له! وذلك للتشرذم الشديد في القوى السياسية المصرية، سواء في ذلك الأحزاب التقليدية أو الأحزاب الناشئة أو الائتلافات الثورية التى كونها الناشطون السياسيون بعد الثورة والتى تجاوزت 300 ائتلاف ثورى! وإذا ما عرفنا أن عدد الأحزاب المصرية الآن نحو مائة حزب الغالبية العظمى منها أحزاب ورقية ليست لها أى قواعد شعبية كونتها وتديرها شخصيات غير معروفة وليس لها أى ماض سياسى، لأدركنا حجم الأزمة التى يمر بها الآن النظام السياسى المصرى الجديد بقيادة الرئيس «السيسى».

فالانتخابات متعثرة نتيجة العوار الدستورى لقوانينها التى تكشف عن تدنى القدرات القانونية لمن قاموا بصياغتها، بالإضافة إلى الانشقاقات الواسعة المدى بين مختلف التحالفات السياسية والأحزاب، كما ظهر جليا في الحوار الذى أداره رئيس مجلس الوزراء المهندس «محلب».

ومعنى ذلك في الواقع أن النظام السياسى الوليد قد دخل في مرحلة مرض من أمراض الديمقراطية، وهو العجز عن التوافق السياسى حول أبجديات النظم السياسية المطبقة في العالم فيما يتعلق بكيف يمكن إجراء الانتخابات البرلمانية.

لكل ذلك تذكرت الدرس القديم لأستاذى الجليل «عبد الحميد متولى» الذى ألقاه علينا في مدرجات كلية حقوق الإسكندرية حول أمراض الديمقراطية!

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟