المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

ريش... ذاكرة الحداثة وحياتها فى القاهرة

الخميس 07/مايو/2015 - 02:59 م

المقاهى تمثل أحد أبرز ملامح المدنية والمدينة الحديثة فى مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى القرن العشرين،

وكانت جزءاً لا يتجزأ من عملية الخروج التاريخى من تشرنق الحارة المصرية والأحياء الشعبية إلى كسر أبوابها وانفتاحها على خارجها، وإنارتها ليلاً مع الحملة الفرنسية. المقاهى الشعبية، والمقاهى على النمط الفرنسي، شكل بوادر تشكيل أحد بؤر ودوائر المجال العام الذى يتفاعل فيه الجمهور مع بعضه بعضاً، ويتبادلون الآراء والأفكار والقيم والرموز. بل نستطيع القول إنها كانت أحد محركات الحيوية المدينية، وشكلت فى القاهرة والإسكندرية جزءاً من فضائهما الكوزموبوليتاني، لأنها كانت تحتوى على المكونات الثقافية المتعددة المصادر والأعراق والجنسيات، وفضاء للتداخل بين المتمصرين والأجانب والمصريين، من هنا لم تكن مكاناً فقط لقضاء أوقات الفراغ، وإنما كانت منطقة تبادل قيمي، وبناء صداقات وصفقات.

الدور الثقافى للمقاهى وكتجمعات لبعض المثقفين تشكلت حولها بعض المدارس الفنية والأدبية ومراكز توزيع الأفكار والسلع الثورية، وإشاعتها، وكانت تعقد فيها اجتماعات سرية لبعض المجموعات الثورية المحجوبة عن الشرعية. ومعهم عيون التلصص والتنصت الأمنى التى كانت ولا تزال تطارد المبادرات والأفكار الجديدة وتخشاها.

تاريخ المقاهى ومحمولاتها ومضمراتها وأسرارها وحكاياتها لم يكتب بعد... لاسيما بعد الفوضى المعمارية، وانهيار الفن والجماليات المعمارية لصالح هيمنة ذهنية التجار ورجال الأعمال الجدد الذين حولوا العمارة إلى ميدان للمقاولات، والعمارة المشوهة التى انحسر عنها الجمال والقيم والشخصية، وتحولت إلى فضاء من الكتل الأسمنتية، والاستعارات المشوهة للعمارة الوظيفية التى فقدت معناها ووظائفها.

بعض المقاهى التاريخية كانت السياسة والأدب والشعر والرواية والفلسفة جزءاً من أحجارها التى امتصت بعضا من رحيق المبدعين وأفكارهم وصورهم وحياتهم ونزواتهم وشطحاتهم وجنونهم، وصحوهم وأحلامهم، كانت بعض المقاهى الشهيرة مساحات للإبداع والكتابة، ولتشكيل العقول والتأسيس للمعارف التى تتداول بين الصفوة المتميزة من العقول المصرية إلى الآخرين من الشعراء والأدباء والنقاد والمثقفين من الأجيال الشابة. وتداخل مع الثقافة العالمة التى ينتجها ويتداولها ويتحاور معها الكبار، والثقافة السماعية وفق على فهمى أو الثقافة بالسماع التى تعتمد على الشفاهية والسماع كآلية لتكوين المعارف المبتسرة والجزئية والمشوهة فى كثير من الأحيان مخلوطة ببعض من الأكاذيب والادعاءات حول بعض النظريات والأفكار والمفكرين والفلاسفة والأدباء الكبار فى الغرب أو الشرق، كما كان يدعيها بعضهم فى مقاهى الأدباء والفنانين فى القاهرة أو الإسكندرية بعد أن غادرتهما روحهما الكوزموبوليتانية، وروح التعدد والانفتاح والتسامح والتنافس الإيجابي.

كانت ريش ذات التاريخ الذى يزيد على المائة عام جزءا من تحولات مصر السياسية والثقافية والفنية، وتحمل بين جدرانها السياسة والثورة والموسيقى والشعر والقصة والفلسفة والقانون والفنون التشكيلية منذ إنشائها فى العقد الأول من القرن العشرين، ومصر تدخل آنذاك إلى فضاءات الحداثة والتحديث على رحابة عالمهما، ومن ثم حدثت بها تغيرات اجتماعية فى تركيبة روادها من البشوات والبكوات والأفندية، والأحداث الثورية، والسياسية حيث كانت تطبع فى قبوها منشورات ثورة 1919 الوطنية الكبري. مقهى ريش يحمل فى تكوينه وأحجاره، عديد الأصوات والنغمات والأشعار وروح عديد من سادة الكلام والأفكار فى مصر والعالم العربي، على رأسهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وأستاذنا يحيى حقي، ويوسف إدريس وجمال الغيطانى وإبراهيم أصلان، ونجيب سرور، وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم والبياتى ومحمد الفيتورى وسعدى يوسف وآخرون من جيل الستينيات والسبعينيات، وامتد حضور هؤلاء إلى الآن، وحتى وفاة صاحبه مجدى عبد الملاك الذى كان حريصاً على تقاليد المكان، وطبيعة تكوينه الثقافى المفتوح على الحوار بين مريدينه، وعدم السماح لبعضهم بالتجاوز أو التحرش اللفظى ببعض المريدين. استطاع الراحل العزيز مجدى عبد الملاك أن يحافظ على الطابع التاريخى للمقهى كفضاء ورئة ثقافية فى وسط المدينة وبين إطلالها التى تحرك وتمدد إليها كواسر القبح البذئ. وقف بضراوة إزاء محاولة بعضهم تحويلها إلى حيز للغو والمشاكسات.

كان يحول دون تمدد بعض السوقية فى سلوك بعض من رواد المقاهى الأخرى التى تمارس فيها بعض الثرثرة التى تنبو عن الذوق واللياقة، ويعود ذلك إلى حراسته لتاريخ المكان وتقاليده وطقوسه التاريخية القديمة، وأيضاً لأن محمد الفيتورى جاءه ذات مرة قبل الافتتاح الجديد، وسأل عن صديقه يوسف إدريس فقال له مجدى إنه يقاطع ريش، ولا يعرف السبب فذهبا معاً إلى مكتبه بالدور السادس بالأهرام، وقال لهما إنه لا يريد أن يذهب إلى ريش حيث العراك وبعض السابلة من مدعى الثقافة الذين يفرضون ظلهم السخيف على بعض كبار المثقفين والكتاب. من هنا جاء موقف المرحوم مجدى عبد الملاك الصارم من الحيلولة دون أن تتحول ريش إلى مكان يمارس بعضهم داخله ضغوطا على رواد المقهى من كبار الكتاب والمثقفين. فى أثناء الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011 وما بعدها وحتى 30 يونيو 2013 لعب مجدى دوراً مهما فى حماية بعض الشباب الثائر من غوائل الأحداث والعنف السلطوي، أو من بعض الغلاة من الإسلاميين السياسيين. الأهم أن المقهى كان المركز المتقدم للطاقة الثورية التى انطلقت من قلب المكبوت السياسي، وكان فى طليعة الداعمين والحماة لهم.

بوفاة مجدى عبد الملاك أصبح المقهى مهدداً بالهدم لأن بعضهم عرضوا عليه عشرات الملايين كى يترك المبنى يهدم، ليتم بناء كتلة أسمنتية شوهاء جديدة تعبر عن الذوق المعمارى الفظ للمقاولين ورجال الأعمال الجدد. من هنا لابد للدولة على أعلى مستوياتها أن تتخذ قراراً بنزع ملكية المبنى الأثرى أكثر من مائة عام للمصلحة العامة على نحو ما تقوم به الدول الكبرى التى تعرف قيمة تراثها التاريخى والثقافى والمعماري، وكما قام جاك لانج وزير الثقافة الفرنسى فى عهد ميتران بنزع ملكية مقهى الفوكيتس فى الشانزلزيه لأن ملاكه الجدد حاولوا تحويلها إلى معرض للسيارات الفارهة والفاخرة!!

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟