المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

دولة التلاوة والإيمان المصرى

الخميس 25/يونيو/2015 - 11:33 ص

خط الثلث المصرى، وأصوات المقرئين العظام المشايخ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، والشعشاعى، والحصرى، وعبدالباسط عبدالصمد، والمنشاوى، ومحمود على البنا وآخرين، شكلوا دولة التلاوة وفنونها القرائية، وشكلوا ولا يزالون قوة ناعمة وساحرة يملؤها الإيمان الشفيف وروح الفن والموسيقى الساحرة والغاوية للدخول فى ظلال الرحابة الإيمانية، وذلك رغما عن محاولات عديدة لإحلال أصوات أخرى بقوة وسيطرة السياسة والمال والإعلام.

ما الذى يجمع بين أصوات السماء الصادحة وخط الثلث المصرى وكبار الخطاطين، والتطور الموسيقى الشرقى، ونقله من الجمل والإيقاعات التركية ورتابتها، ومجافاتها لدينامية الحياة وتحولات الروح وتصاعدها وتوقها للأعلى والأعظم تبتلا وتبجيلا وتعظيما وخضوعا وتوحيدا لله الواحد الأحد؟ الجامع الموحد والمتعدد المنابع والمصادر الروحية والوجدانية والتعبيرية هو المواريث الحضارية المتراكمة وتعبيراتها وتحولاتها التى تضفى على تجارب الإيمان وطقوسه وجمالياته وأناشيده وترانيمه وقراءاته سماته المصرية العمق والروح والموسيقى والأصالة.

أنماط من الإيمان الدينى المتناغم والمتواشج بين الحياة وتدافعاتها وتحدياتها واستجابات المصريين الاستثنائية فى المواءمة بين محبة الله والخضوع له والتسبيح بحمده ونعمائه وبين الضمير الفردى، وعسر الحياة تحت ظلال الإيمان بالله الواحد الذى لا شريك له.

أنماط من التدين المتسامح تبدو غالبة رغما عن أقنعة الحياة ومخاتلاتها وغوائلها التى واجهت المصرى ولا تزال، ولا يملك سوى إيمانه بالله، فى عمق أعماقه لأنه وارثً تاريخاً مديداً من التجارب الإيمانية الفردية والجماعية، تداخلت فى وعيه الفردى والجمعى وارتبطت بتراثات حضارية وثقافية استثنائية فى غالب التاريخ الإنسانى.

الإيمان المصرى يحملُ فى أعطافه البهجة وعشق الجمال وحب الحياة والبناء والتسامح والمغفرة والستر ورفض اليأس، والأمل الدائم والمستمر واللا نهائى فى رحمة الله ودعمه لهم.

من هنا يبدو غريبا على روح مصر والمصريون سعى بعضهم لاستيراد أنماط مغايرة من تعبيرات وسلوك الإيمان الذى يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين مواريثهم الإيمانية وتراثهم الثقافى وسلوكهم، وذلك من أجل إشاعة نمط من التدين الاجتماعى الذى ارتبط ببيئات اجتماعية وثقافية مغايرة، تأسست على الغلو والتشدد وإقامة الحواجز والذكورية المفرطة فى التمايز الإيمانى والاجتماعى.. الخ حاول بعضهم من الغلاة أن يستوردوا أنماطا إيمانية ودينية تجافى الإيمان المصرى الفردى والجماعى، كى يقتلوا البسمة والبهجة والروح الساخرة ونكاتها- التى ابتدعها المصريون ليواجهوا غوائل الزمن ومصاعبه.

حاولوا ولا يزالون ستر الوجوه وراء أقنعة من الصرامة والقسوة وعنف الملامح والقسمات والتعبيرات.. إيمان حاولوا أن يكون قاسيا، ولغة وتعبيرات لغوية كانت جزءاً من عوالم وأنماط تفكير غادرتها روحها وأزمنتها، حاولوا فرضها فرضاً على حركية وحياة الفكر واللغة الحية. من هنا يبدو هذا المشروع لقولبة الإيمان المتسامح، متصادما مع ثقافة الإيمان المصرى المعتدل .

إن استيراد النمط الإيمانى المتشدد، كان جزءاً من سياسة دينية خارجية تهدف إلى إعادة تشكيل توجهات وقيم التدين المصرى الإسلامى، لتغدو معتمدة على مرجعيات أصولية وهابية، وما تفرع عنها من أصوليات سياسية دينية »متطرفة«، ومن ثم تهميش دور الأزهر وعلمائه كمرجعية سنية مركزية فى عالم الإسلامى السنى الأكثرى، ومنفتح بالحوار والتعايش مع عالم الإسلام الشيعى الأثنى عشرى على نحو ما قام به وأسس له مولانا الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت والشيخ القمى، ود. محمد عبد الله دراز العالم الجليل وسواهم من كبار الإصلاحيين.

تمددت هذه السياسة الدينية المتشددة، من خلال المراكز الدينية المنتشرة فى عديد من بلدان العالم الإسلامى، مع تقديم المنح الدراسية للطلاب، وذلك لنشر نمط من أيديولوجيا مذهبية محددة، وهو ما ساهم ضمن عديد الأسباب، فى محاولة تطويق دور الأزهر فى العالم. من ناحية أخرى ربط بعض علماء الأزهر بهذه السياسة من خلال نظام الإعارة والعمل.

كانت هجرة أعداد كبيرة بحثا وراء فرص العمل والرزق أحد عوامل إعادة تشكيل نمط التدين المتسامح، وذلك من خلال تكيفهم مع مجتمعات تختلف نسبيا عن بعض مكونات ثقافة التدين المصرى الشعبى وما ألفوه فى حياتهم الروحية، ومن ثم عادوا ومعهم بعض ثقافة التدين السائدة هناك، ومعهم بعض من رجال الدين المتشددين الذين تعلموا هناك على أيدى مشايخ غلاة.

ثمة سعى من بعضهم لتحويل وظيفة رجل الدين المتشدد إلى سلطة تحتكر النطق باسم الإيمان والعقيدة والسلوك والحلال والحرام والصواب والخطأ والحسن والقبيح.. الخ، على نحو ما تعرفه بعض الديانات السماوية الأخرى، وهو ما يخالف جوهر الإيمان الإسلامى.

أن خطورة هذه التوجهات أنها تحول الديانة الإسلامية العظيمة إلى إيديولوجيا سياسية شمولية تسعى إلى السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية لصالح بعض المشايخ أو الجماعات السياسية والإيديولوجية التى تريد أن تؤمم حريات الناس وإيمانهم لصالحها، والأخطر إعادة تشكيل هذا الإيمان على هواها الإيديولوجى والسلطوى ومصالحها. وفى سبيل ذلك تسوغ للعنف الدينى، والخطابى واللغوى وتجميد الفكر والخطاب الدينى وإعادة إنتاج اللغة القديمة، وتنميط الإيمان والحياة معاً، على نحو ما ثبت تاريخيا فشله كمشروع، وإيديولوجيا.

من هنا لايزال صوت محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والشعشاعى والحصرى وعبد الباسط، والمنشاوى، ومحمود على البنا، تعبيراً عن الإيمان المصرى، ولا يزالون ملء السمع والوجدان، وتسمع أصواتهم الجميلة من فاس إلى وهران مروراً بالزيتونة إلى دمشق، إلى طرابلس وبيروت والخرطوم، وجاوةُ حيثما كان هناك مؤمن بالدين الإسلامى العظيم، ثمة عشق لفن التلاوة المصرى ومحموله الإيمانى الاعتدالى المتسامح المؤسس على البهجة الإيمانية ومن ثم فشلت كل محاولات إزاحة صوت إيماننا العميق المنفتح على الدنيا وجمالها ورحابتها.. أن ثقافة الإيمان المصرى تحتاج إلى إحيائها وتجديدها، لأنها جزء من رسالتنا فى الإقليم والعالم.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟