المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

عمارة الحرية والجمال.. و عمارة القبح!

الخميس 29/أكتوبر/2015 - 11:38 ص

تشكل العمارة ذاكرة الثقافة ومحمولها التاريخى من موهبة البناء وإبداع الجمال وتشكيلاته المتنوعة التى تعبر عن اكتشاف الإنسان عموما والمعمارى خصوصا لمصادره وتجسيدها فى أكثر خصوصيات حياته، السكن وبحثه عن السكينة والهدوء والتأمل والراحة عن الذاتى والخصوصى فى تكوينه، وفى بحثه عن هذه الذات وتأملها فى الخلوة الآمنة. هى أيضا كاشفة عن السلوك الإنسانى وتحرره الداخلى والخارجى معا داخل الحيز أمنا غير خائف. من هنا المنزل وتخطيطه وبناؤه وتنظيمه هو فضاء للحرية الشخصية وممارساتها، هو المدرسة الأولى لتعلمها، ومن ثم هو افتتاحية تكوين الفرد والنزعة الفردية.

التخطيط العمرانى، والعمارة ليست فقط محض الحجر والطوب والأسمنت ولا الرخام، ولا شكل الأبنية والأنسجة المعمارية فى فضاء المدينة على أهمية الجوانب الهندسية والفنية، ومدى دقة التنفيذ والأداء، وإنما هى أحد الفنون الجامعة، أو فلنقل فن الفنون، لأن فيها موسيقى الحجر، وإيقاعات النور والظل وما بينهما، وتنطوى على التشكيلى والبصرى، هى وجه المدينة ووعاؤها الثقافى والإبداعى، وهى التى تحرض على الجمال، والأناقة المعمارية هى المؤطرّة لأناقة الزى ورهافة السلوك والحس الإنسانى والجمالى فى تفصيلات الحياة اليومية.

العمارة هى وجود وكينونة، هى عزف الحجر وقصائده، وهى شعرية الحجر فى الفضاء العام، وهى نشيد الحرية والتعبير عنها طليقة كانت أم أسيرة والقيود المفروضة على حركة المواطن أو تحرره فى المجال العام، وهى الكاشفة عن ثقافة المكان، والمدينة وازدهارها، أو تدهورها وانحطاطها، وهى الحد بين الحرية والأسر وبين الانطلاق وبين القيود.

العمارة كاشفة عن وضعية الحريات العامة والشخصية من حيث إقرارها واحترامها أو فرض القيود السلطوية عليها، سواء فى التخطيط العمرانى للأنسجة المعمارية والفراغات والطرق والميادين العامة. فى النظم الشمولية وجدنا الميلُ إلى تصميم الأبنية الضخمة التى أطلق عليها بعضهم «أسنان ستالين»، حيث تبدو المبانى الحكومية ضخمة وعالية وواسعة فى تصميمها الخارجى وفى فضاءاتها الداخلية، ويبدو الإنسان فيها وكأنه محض قزم إزاءها هى عمارة وظيفية صلدة وفيها جفاء بين الإنسان والمبنى، ومن ثم تفتقر إلى الحميمية، وترمى إلى بث رسالة دائمة بعظمة الدولة والحاكم والحكم. خذ مثلاً مقر البرلمان فى بوخارست فى بلغاريا مثالاً على ذلك. بعض الحكام الإمبراطوريين فى نظم ديمقراطية عريقة أرادوا تخليد ذواتهم المتضخمة من خلال نمط معمارى اختاروه بأنفسهم من ضمن عديد التصميمات، ومن هؤلاء «الإمبراطور» الرئيس الفرنسى المحنك فرنسوا ميتران، ولأنه مثقف كبير وسياسى محنك وداهية هو الذى اختار ضمن آخرين - قوس الدفاع - أو القوس الكبير الذى صممه المعمارى الدنماركى يوهان أوتوفون شبريكلس (29-1987) وخلفه شريكه المعمارى الفرنسى بول أندريو وأنجز العمل فى 89 -1990، ثم بتكليف من ميتران صمم المعمارى من أصول يابانية أى أم بى هرم اللوفر الزجاجى، وكذلك اختار تصميم مبنى وزارة المالية ببيرسى وأطلق على مجمل هذه الأبنية واختيارات ميتران العمارة الميترانية.

بعض الدول التسلطية مكتظة السكان تميل أجهزتها الأمنية إلى تصميم الفراغات والأفنية والميادين وما حولها على نحو يسمح لها بفرض قيود على حركة الأفراد والمجموعات، بحيث يسهل السيطرة على الجموع فى حالات التظاهر أو الغضب، لاحظ حالة ميادين التحرير والإسعاف، ورمسيس والنهضة.. الخ قبل 21 يناير 2011. هنا يبدو تخطيط هندسة المرور والتحرك تعبيرا عن طبيعة النظام وقيوده المفروضة على المجال العام السياسى.

من ناحية أخرى تكشف فوضى البناء العشوائى، وفرض الأمر الواقع وتجاوز القانون عن فساد أجهزة الدولة والحكم المحلى فى فرض قانون الفساد فى البناء بلا تخطيط ولا مراعاة للقواعد الهندسية وهو ما يؤدى إلى عمارة المقاولات، حيث تغيب القيم وأخلاقيات البناء والعمران لصالح شيوع عمارة القبح الذى يأتى من ضحالة تكوين المعمارى وتفاهته تحت سلطان التربح المالى وخضوعه لقانون المقاولين.

عمارة القبح هى سلطان القانون المعمارى فى مصر، حيث تغيب التصميمات التى تكفل الحق فى الخصوصية والتمتع بها داخل الحيز المكانى للحياة الخاصة للشخص أو لأفراد الأسرة وتبرير ذلك بالعشوائية، وعدم احترام وإقرار الحق فى السكن الصحى إلى آخر هذه التبريرات التى ساهمت مع غياب السكينة العامة فى المدن إلا أن يكون السكن ضيقا ومكتظا بأفراد الأسرة، والملتصق بغيره من الوحدات السكنية، ومتداخل مع المساكن والبيوت الأخرى إلى أن أصبح جحيما أرضيا بلا نزاع، حيث سهولة التنصت والتلصص من الجيران، وضوضاء الطرق الضيقة وأصوات الباعة الجائلين، ويعود السكن كفضاء للمجال الخاص جحيما وصخباً بديلا عن أن يكون فضاء للحرية الشخصية وتجلياتها بعيدا عن العيون المتلصصة، والأذان المتنصته هذا بالإضافة إلى تنصت السلطات على هواتف المواطنين لاسيما من ذوى التوجهات السياسية أيا كانت!

هذا النمط العشوائى أدى ضمن عوامل أخرى لاهتزاز وضعف بل وغياب مفهوم سيادة قانون الدولة، ودوره فى الضبط الاجتماعى والأخطر عجز القانون العام الإدارى - عن تحقيق مفهوم السكينة العامة. نعم بتنا نحيا ضمن دائرة جحيم العمارة المبتذلة والسوقية التى تفتقر إلى الروح الحداثية، أو حتى روح القومية، بحيث تبدو العمارة الحداثية وما بعدها محض مسوخ من الحجارة والرمل والأسمنت فاقدة الروح المعمارية وموسيقاها، أو عمارة مستنسخة من أنماط عولمية تتفق مع مجتمعاتها وعصرها وقد لا تتفق وتتناسق مع ثقافاتنا الوطنية والمحلية.

منذ عمارة مصر الفاطمية وما بعدها، انتقلنا مع نهاية القرن التاسع إلى عمارة وسط القاهرة الأوروبية، ومع النصف الثانى من القرن العشرين دخلت العمارة الوظيفية فى البناء الحكومى مفتقرة للجمال والروح، عمارة خشنة وفظة وغليظة القلب وتبدو عمياء، وبعيدة عن ثقافة المكان والبيئة وقيم الإنسان الذى يسكن المكان فى داخله ويعبر عنه.

كانت الروح القومية تبدو قليلا فى بعض الأبنية الحكومية والمحاكم ومحطات السكك الحديدية والمساجد والأديرة والكنائس أثناء الحركة القومية المصرية، وتجلت فى النحت لدى مختار، وفى بعض إبداعات التصوير التشكيلى، إلا أن هذه الروح تراجعت مع هيمنة وظيفية معمارية مستعارة من عمارة الدول الاشتراكية، ولم تهتم النخبة المهترئة بتجربة صديقنا الكبير حسن فتحى الراحل المقيم أو تطويرها.

وصلنا إلى هنا حيث عمارة تفتقر إلى الروح، فظة وسوقية رغما عن بعض التزويقات الفجة التى تعكس روحاً بورجوازية منحطة بلا ثقافة ولا قيم رفيعة للجمال والتوافق بين الإنسان والحجر. قال جوته إن العمارة موسيقى مجففة، وأن الموسيقى والهندسة من نبع واحد. ونراها موسيقى وشعرا وثقافة وروحا مجسدة فى البناء.

أما عمارتنا القبيحة فهى تعبير عن أن الجمال رحل عنا وعن حياتنا وا أسفاه!!

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟