المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

جمهورية الأسئلة الساكتة

الخميس 03/ديسمبر/2015 - 02:28 م

المجتمعات، التى لا تطرح الأسئلة على نفسها، تتسم بالركود والموات العقلى وفقدان الهمة والروح والعزم. هى مجتمعات مفتونة بمديح الذات واستعادتها لتاريخ موهوم صاغته من أساطيرها النخبوية، وربما الشعبية وبات يشكل لها ملاذاً آمناً أقرب إلى الرحم التاريخى الذى تستكين إليه وتمجده وتقدم له قرابين الاستجداء لأنها تبحث عن أمان ما داخل هذا الرحم الأسطورى الذى تم تأسيسه من متخيلاتها، ومن تمجيدها الكاذب لتاريخها ومحمولاته. أنه سعى وراء الحصول على لذة الإجابات المسبقة والطمأنينة التى لا تجد لها ظلاً فى واقعها المزرى والملتبس المترع بالضياع والمسكون بالخوف من حاضرها ومستقبلها الغائم والمشوب بالغموض وعدم اليقين. مجتمعات تبدو مرعوبة من الأسئلة الجديدة، أسئلة الحاضر والمستقبل، ومن ثم تأوى إلى أسئلة السكينة القديمة وتتلوها ومعها إجاباتها الجاهزة، إجابات الإيمان بمدائح الذات لذاتها. من هنا هى مجتمعات ونظم سياسية متكلسة، لا تستطيع الهبات الجماهيرية أو الجيلية أن تغير من جوهر إيمانها الخشبى بذاتها الذى يعتمد على مجموعة من الأساطير والحكايات والمرويات والأمثولات الشعبية التى أنتجت فى مراحل تاريخية ويعاد تلاوتها وكأنها هى الحكمة والحقيقة والمثال الذى تأوى إليه فى حاضرها ومستقبلها. حكم وأمثولات خشبية لا تبين، وهى أقرب إلى لغة الكلام الساكت إذا شئنا استعارة التعبير الشعبى السودانى ذائع الصيت، حيث اللغة والصياغات التى لا تحمل سوى موتها الذاتى والتى لا تحمل سؤالاً أو معني، ومن ثم تبدو فاقدة لمعناها ولا تقدم ولا تؤخر كثيراً.. من هنا تبدو جّدةُ السؤال أو السؤال على السؤال ذاته مفرداً أو جمعاً، دلالة حيوية عقلية واجتماعية وسياسية ودينية وثقافية. من هنا تبدو حالة مصر الدولة والمجتمع والشرائح الاجتماعية والسياسية والثقافية فى مأزق تاريخي، حيث لا أسئلة حقيقية تطرح ولا مساءله للأسئلة التى تستعاد وكأنها أبدية ومتعدية للزمان والتاريخ وهو ما يبدو فى أسئلة الفقه والتأويل والتفسير القديمة التى تعيد إنتاج إجاباتها العتيقة التى فقدت معناها وسياقاتها وظروفها التاريخية، ومن ثم تبدو هى وإجاباتها خارج التاريخ.

إن الأسئلة حول الأديان والعقائد وضعية وبشرية بامتياز هى وإجاباتها ومن ثم تخضع للمساءلة والجرح والتعديل والاستبعاد، والكشف عن زيفها أو أنها أسئلة حقيقة حول مشكلات وجودية أو إشكاليات أو ظواهر أو التباسات يطرحها الواقع الموضوعى أو العقل الناقد أو العقل الناقل.

إن ظاهرة الأسئلة الزائفة التى يطفح بها تاريخنا فى غالب مراحله لاسيما طيلة أكثر من أربعة عقود مضت، ولا يزال تعود إلى عديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي:

1ـ هيمنة ثقافة النقل والحفظ والتكرار والتلاوة على الآليات الذهنية للعقل النخبوى والشعبي، حيث يشكل النقل حالة آمنة، لا جدل حقيقى حولها، ولا ارتباك أو توتر يربك النخب والجماهير آحاد الناس -، لأن النخب تكلست باستثناءات محددة تاريخياً من نهاية القرن التاسع عشر إلى المرحلة شبه الليبرالية- أسئلة النقل وإجاباته وإعادة إنتاجها بوصفها أسئلة حقيقية والإجابات بوصفها حقائق، ومن ثم يؤدى ذلك إلى نمط من السيطرة الرمزية على ذهنية الآحاد من الجمهور، ومن ثم تيسر الثقافة النقلية عمليات السيطرة السياسية والأمنية من أجهزة الدولة على الناس، لأن ثقافة العقل النقدى والأسئلة تفتح الأبواب عن سعة لمساءلة الحاكم حول شرعيته، وقمعه وفساده وجهله فى عديد الأحيان، ومن ثم عدم كفاءته.

2 ـ أنماط التنشئة الاجتماعية البطريركية، والبطريركية المحدثة بتعبير هشام شرابي- التى يسيطر عليها التلقين والاتباع والانصياع والامتثال من الأسرة إلى المدرسة والجامعة والعمل، وهو ما ساعد على سيادة ثقافة سياسية تسلطية، ومن ثم عقل تسلطى أبوى أو شبه أبوى ينتج إنسانا مقهورا ومقموعا، لا يملك سوى الامتثال أو اللجوء إلى أشكال للتنفيث عن الغضب والشعور بالقهر من خلال النكات أو الأمثولات الشعبية التى تبرر هذا الشعور، أو تنتقده على نحو موارب بما يؤدى إلى تنفيث هذه المشاعر الغاضبة ولا تحولها إلى أسئلة حقيقية تؤدى إلى نقد للحاكم أو ذوى السلطة والنفوذ.

3 ـ الركود السياسى الناتج عن التمدد التاريخى للتسلطية فى قلب الثقافة السياسية التى تعيد إنتاج نمط من الأسئلة والمقولات والإجابات، والتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اللا سياسية التى تخلو من الصراعات السلمية حول الرؤى والأفكار والبرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتنوعة، والتى تفتح الباب من خلال هذا الصراع والتنافس السلمي، وتبادل الأفكار والنقد الاجتماعي، وإتاحة الفرصة أمام «المواطنين» والأحرى الجمهور لأن المواطنة لا تزال مشروعا تاريخياً غير منجز وتام فى الحياة الدستورية والقانونية التى لا تعكس سوى مصالح القوى الاجتماعية المسيطرة على الثروة والسلطة السياسية.

4 ـ ضعف مستويات البحث الاجتماعى فى عديد المجالات حول المشاكل والظواهر الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية فى المجتمع المصري، وغالبا ما يتم غالبها دونما ضوابط ومعايير علمية صارمة فى ظل تراجع مستويات التقييم العلمى للبحوث، وضعف الكوادر الجامعية لدى غالبُ أعضاء هيئات التدريس- فى ظل إنتاج علمى ردئ للجامعات الإقليمية الريفية الفكر والعلاقات والرؤي.

من ناحية ثانية، تردى مستويات التكوين العلمى للطلاب فى الجامعات الكبرى وانفصالها عن مراكز البحث الأكاديمى والعلمى فى الجامعات الكبرى فى أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من المناطق الأكثر تطوراً، وذلك على الرغم من الثورة الرقمية والمعلوماتية وتحولاتها الهادرة.

من ناحية ثالثة: ضعف الطلب السياسى والاجتماعى على المعرفة والبحث والثقافة، على نحو أدى إلى شيوع الترهل واللا مبالاة فى مراكز البحث الرسمية.

ساد التلقين والإجابات واللغة الخشبية الجاهزة، وانكسرت علاقاتنا عموما مع مراكز إنتاج المعرفة فى عالمنا، وغاب الطلب على ضرورة التجدد المعرفى مما أدى إلى هيمنة عقلية المسلمات والبداهات الجاهزة، لا عقلية الأسئلة الجديدة الباحثة عن إجابات مغايرة والهادمة للقناعات البليدة، والوسن العقلي. من هنا نعيش فى ليل عقلى طويل، إلا من تابع وجاهد وعرف وسائل واقعه وعالمه وكان من الناجين.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟