المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

ثقافة السؤال والعقل المشوش

الخميس 10/ديسمبر/2015 - 12:18 م

أحد أسباب تدهور وركود العقل المصرى طيلة أكثر من ثلاثة عقود يتمثل فى ضعف ثقافة السؤال، والنزعة النقدية التحليلية للظواهر والمشكلات والأزمات التى تواجه المجتمع و«الفرد»،

والمكونات الأساسية التى تتشكل منها الأمة كإطار متخيلُ وجامع بين مكوناتها. ومن ناحية أخرى الانفصال بين السياسات والمناهج والمواد التعليمية عن ثقافة السؤال على نحو أدى إلى شيوع أسئلة البداهات - على غموض بعضها وعموميته - أو العجز عن وضع السؤال فى الفكر والتعليم والسياسة والثقافة، وفى الحياة اليومية لآحاد الناس من «العوام»! والسؤال ما المقصود بثقافة السؤال؟

نقصد بثقافة السؤال مجموعة التقاليد والممارسات الذهنية التى تعتمد فى مقارباتها للواقع الموضوعى، والظواهر الاجتماعية والطبيعية والعلمية على طرح نظام من الأسئلة الكيفية والإشكالية التى لا توجد إجابات بديهية عليها، ومن تفتح الأبواب أمام أسئلة أخرى، ومساءلة الأسئلة ذاتها بحثا عن إجابات عليها، وهى الأمر الذى يختلف عن الأسئلة البديهية والعامة، والتى تعيد إنتاج معرفة مسبقة يعترى بعضها الغموض أو العمومية وعدم الانضباط، ومن ثم تعيد أسئلة البداهة فى الغالب الأعم ذاتها ومعها الإجابات المحمولة عليها دون تنشيط للعمليات العقلية.

وقد أثار ببراعة صديقنا الأنثربولوجى المرموق البروفسير محمد المعزوز بعض التمايزات بين الأسئلة البديهية والإشكالية والكيفية فى المداولات التمهيدية لمؤتمر مؤسسة الفكر العربى عن التكامل العربى أسئلة وآفاق الذى عقد بالقاهرة هذا الأسبوع بمناسبة سبعينية ميلاد الجامعة العربية. وهى تمايزات مهمة وأساسية لتحريك وتنشيط أسئلة جديدة أو قديمة يعاد مساءلتها بحثا عن مشاركة جماعية حول قضايا التكامل العربى. ويبدو لى أن أحد أسباب ضعف ثقافة السؤال، والإشكالى على وجه التحديد تتمثل فى ضعف مستوى تعليم اللغة العربية، وتردى مناهجها وعدم ضبط معانيها لدى الكثرة الكاثرة من المثقفين والمتعلمين، والغموض الذى يعترى استخداماتنا لمفرداتها وصياغاتها وأساليبها، وتحول ثراء مفرداتها إلى عبء وإلى تشوش على الرغم من أنها لغة غنية بمفرداتها، من ناحية أخرى بطء عملية تعريب المفردات والمصطلحات العلمية فى العلوم الطبيعية، والاجتماعية إلى اللغة العربية لإثرائها وتطويرها وتبسيط البنى النحوية. لا شك أيضا أن وراء تراجع العقل النقدى لصالح هيمنة العقل النقلى وذاكرة الحفظ والاستظهار تعود إلى الانفصال بين التعليم وثقافة السؤال لاعتماده على تلقين البداهات وإعادة تلاوتها، وعدم تدريب وتمرين الطلاب على الممارسة النقدية للظواهر الاجتماعية والعلمية، وعدم إعادة النظر فى أسئلة ومقررات ومواد المناهج المفروضة على الطلاب والتى يضعها بعض المدرسين من مفتشى التخصصات المختلفة، أو بعض أساتذة التربية وسواهم.

إن ثقافة وتعليم البداهات - تبا لهما معاً - أصبحا جزءاً من الممارسة التعليمية فى رياض الأطفال ومدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، وهو ما يشكل استمرارية لنظام الكتاتيب دون مزاياه الأخرى.

وساعد على تعليم البداهات سيطرة عقل البداهة والتلقين والمحفوظات والمرويات الشعبية وأمثولاتها على ذهنية المدرسين والمدرسات الذين يقومون بتحويل العملية التعليمية - من ميدان الأسئلة وتحليل ونقد الظواهر والمشكلات والأفكار - إلى تلقين وحفظ وتلاوة وتكرار واختصار المناهج - ذات المستوى الضعيف والردئ - إلى مجموعة من الأسئلة العامة، والإجابات النمطية الجاهزة عليها، والتى تلخص ما جاء بموضوعات المنهج المقرر، وذلك بهدف اجتياز الاختبارات الشهرية أو نصف السنوية، أو نهاية العام الدراسى، وفى الشهادات العامة. وما يجرى فى المدارس على اختلافها نجد بعضا منه فى كليات العلوم الاجتماعية كالحقوق والآداب ودار العلوم والألسن والتربية.. الخ، ومعها بالقطع الكليات الأزهرية حيث سطوة العقل النقلى والحفظ والتلاوة للمتون والحواشى شارة وعلامة عليها، والاستثناءات محدودة.

هذا الطابع التلقينى والنقلى يعتمد على استظهار المواد المقررة، وحفظ الأسئلة والأجوبة يؤدى إلى ربط العملية التعليمية باجتياز الامتحانات. وهو المنحى التعليمى حول أسئلة البداهات والإجابات المحفوظة الذى تكرسه ظاهرة الدروس الخصوصية التى يمارسها غالب مدرسى ومدرسات مراحل التعليم العام والفنى والأزهرى وممارستهم لثلاثية السؤال البديهى والجواب والحفظ التلاوى - الكتابى والشفاهى - للمواد المقررة للامتحانات. هنا تحول التعليم والمنهج وموضوعاته إلى منحى وظيفى ردئ ـ أدنى وأردأ من الدنلوبية أيام الاستعمار البريطانى - هدفه الحصول على الشهادة أو الانتقال من صف دراسى لآخر، ومن ثم تغيب وظيفة التفكير والسؤال والتعلم النقدى. هذا مرجعه أيضا تخلف نظمنا التعليمية عن نظائرها فى الدول الأكثر تطوراً، أو الدول الصاعدة من خلال التعليم كما تم فى آسيا الناهضة - سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا والصين - التى استطاعت إيلاء عناية لنظامها التعليمى وسياساته وإصلاحه وتطويره جذرياً. من ناحية أخرى انفصال الثقافة عن التعليم، وغياب تقاليد للبحث يقوم بها الطلاب لكى يمارسوا القراءة خارج المناهج المقررة، والبحث فى الأسئلة الإشكالية وطرحها والإجابة عنها. الحشو فى المناهج واللغو الإنشائى فى اللغة التى تكتب بها المواد التعليمية .. الخ أحد أخطر مصادر الخلل فى الكتب المقررة على الطلاب.

 

من هنا يبدو غياب ثقافة الأسئلة - الإشكالية والكيفية - وممارسة البحث الحر للطلاب هو الذى أدى إلى تحول هذا النمط التعليمى السائد إلى عبء على التنمية والتطور بدلا أن يكون محركا للانطلاق نحو التنمية واللهاث وراء عالمنا الأكثر تطوراً. إن الفشل المتكرر لمشروعات تطوير وتحديث التعليم ومناهجه تعود إلى عدم بلورة رؤيا فلسفية ومنهجية يقوم عليها التعليم ومناهجه وسياساته وهو أمر يرجع إلى انفصال التربويين وواضعى المناهج عن متابعة الرؤى والسياسات التعليمية السائدة فى البلدان الأكثر تطوراً، والأخرى الصاعدة، ومشروعاتها على نحو نقدى ومقارن، ودرس الحالة المصرية الكارثية وتطور مشاكلها وإشكالياتها. ومن ثم لا تعدو مشروعات التطوير أن تكون تكراراً لبعضها بعضاً من أسف وأسى معاً. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟