المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

سرد الخيال والحماية القضائية لحرية التعبير

الخميس 10/مارس/2016 - 01:03 م

يبدو أن ذاكرتنا القضائية والقانونية التاريخية تبدو غائمة وأصابها بعض من الوهن لدى الجماعات القانونية، والنخبة الحاكمة، بل والجماعة الثقافية، لأن بعضهم داخل هذه الجماعات يركز على تحليل الموقف الاجتماعى أو السياسى أو الدينى المحافظ لدى بعض القضاة وأحكامهم فى قضايا الحريات، ويحاولون تعميمها على المواقف التاريخية والمبادئ التأسيسية لكبار القضاة من الفقهاء الذين وضعوا المبادئ والقواعد القضائية المناصرة والداعمة والمرسخة للحريات العامة والشخصية وعلى رأسها الحرية الأم، وهى حرية الرأى والتعبير والإبداع الفنى.

ويتناسى بعضهم أن الجماعة القانونية القضاة والمشرعين والفقهاء والمحامين والمفكرين من ذوى التكوين القانونى - هى طليعة القوى الحديثة التى قامت ببناء الدولة القومية، من خلال توطين وأقلمة الهندسات القانونية الوضعية الحديثة، ومعها الفكر والنظريات والمفاهيم والمصطلحات القانونية، سواء على مستوى التنظير أو تطبيق هذه النظريات على الواقع الاجتماعى المصرى بكل محمولاته وتفاعلاته ومشاكله وظواهره الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. من هنا لعبوا دوراً حيويا استثنائيا فى جنوب العالم فى إطار الثقافة القانونية اللاتينية، وهى تجربة رائدة وطليعية، مع الهند فى إطار الثقافة القانونية الأنجلوسكسونية، ونظراً لأن القانون الحديث هو ابن التجربة الليبرالية والرأسمالية الغربية، كانت مسألة تأصيل الحريات العامة والشخصية إحدى أبرز ركائز عمليات بناء الدولة المصرية الحديثة، من هنا أولاها القضاة وفقهاء القانون والمحامون والمفكرون أهمية استثنائية فى ظل الوعى شبه الجمعى والنخبوى بأن مصادر تهديد حرية الفكر والرأى والإبداع والتعبير عديدة سواء على الصعد الاجتماعية والدينية المحافظة، أو طبيعة النظام السياسى وميل بعض الحكام إلى كبح جماح حرية العقل الناقد أو الإبداع الأدبى وسردياته على تعددها واختلاف أجناسها من هنا كان التقليد الحرياتى أو الليبرالى- لدى كبار القضاة راسخاً.

من الشيق ملاحظة أن هذا التوجه الرائد والطليعى، كان تعبيراً عن المجتمع شبه الليبرالى والمفتوح على تيارات الفكر القانونى الأوروبى اللاتينى البلجيكى والإيطالى الفرنسى - ومدارسه الأساسية، وعلى مدارس فكرية وأدبية وفلسفية وسياسية متعددة. من ناحية ثانية: كان التكوين العلمى للجماعة القانونية والقضائية يتسم بالعمق والحداثة والرصانة، ومتابعة الجديد فى النظريات القانونية على اختلاف مجالها.

من ناحية أخرى: كانت الجماعة القضائية خاصة، والقانونية عامة منفتحة على الحياة الثقافية المصرية وتياراتها المختلفة، وعلى متابعة بعض الإنتاج الفكرى والأدبى لكبار المثقفين والمفكرين والآدباء روائيين وقصاصين وشعراء -، بل وعلى التراث الأدبى العربى لاعتبارات تتصل بتكوينهم الثقافى، والتفاعل مع النصوص الأدبية لرفد أحكامهم ولغة تسبيب الأحكام بالبلاغة الأدبية. من ناحية ثالثة: كان طالب القانون وخريج كلية الحقوق آنذاك يجيد اللغة العربية، واللغة الفرنسية أو الإنجليزية.

من هنا نستطيع القول أن البيئة التعليمية والثقافية والسياسية المفتوحة على حريات الفكر والرأى والتعبير والإبداع ساهمت فى تطوير الوعى القانونى والأدب القضائى الذى ناصر وبقوة حريات الفكر والرأى والإبداع، وهو ما ظهر فى قضايا الشعر الجاهلى، والإسلام وأصول الحكم، ومن هنا نبدأ...الخ.

ثمة تأثيرات للحركة الإسلامية السياسية، والتكوين الأزهرى فى كليات الشريعة والقانون- على تكوين بعض الجماعة القانونية والقضائية، فى ظل تراجع نوعية الدراسة فى كليات الحقوق لاسيما فى بعض الجامعات الإقليمية، والانفصال بين بعض القضاة والمحامين عن الحياة الثقافية أدى إلى نمو النزعة المحافظة وسيادتها.

من هنا نستطيع فهم بعض الخلط بين الواقع الموضوعى وشخوصه وأقوالهم وسلوكهم وقناعاتهم، وبين الواقع التخيلى وفضاءاته، واعتبار بعضهم أن القول الحوشى أو البذئ فى السرد الروائى، وكأنه دعوة لخدش الحياء أو الحض على ازدراء الأديان، أو الدعوة إلى التحلل، وهو أمر يخلط بين الواقع وحرية الخيال.

إن لغة القاع التى تسيطر على الحياة الواقعية، ليست هى واقعية البذاءة وتخييلاتها فى السرد الروائى أو القصصى لأنها حيلة روائية تكشف عن التهتك والعرى والبذاءة فى ثنايا الحياة، ولا تروج لها. ومن الشيق ملاحظة أن الواقع الافتراضى بات يسيطر عليه الصور العارية، واستعراضات استهلاكية للعلاقات الحميمة بين الرجال والنساء، ومعها لغة عارية مواكبة للشبق والثورة الجسدية على نحو بات يواكب ويقفز على ما يحدث فى الواقع الفعلى، ومع ذلك لا يمكن الحجر أو الحجب على هذه اللغة والعلاقات الجسدانية المألوفة أو غير المعهودة فى الحياة الواقعية بين الناس، وباتت هذه الصور المتدفقة من المواقع الإباحية تؤثر فى إدراكات الناس للجسد ودوافعه واستعراضاته، وممارساته الإباحية. الأخطر أن الواقع الفعلى مع ثورة الرقميات أدى إلى سلوك وبيل يتمثل فى ميل بعضهم تأثرا بما يراه إلى تصوير فعلهم الحميمى واستعراضاته من خلال الهاتف النقال بل ويميل بعض هؤلاء إلى بثه ونقله إلى أصدقائه، بل والأخطر استخدامه للتهديد أو التشهير. من هنا حرية الخيال وتخيلات البذاءة حول واقعية القاع القذرة هى حيلة روائية لتحليل واقع الحياة المتخيلة، والحياة القاسية فى الواقع الموضوعى، وتهتك العلاقات وكذبها ونفاقها وازدواجيتها، وهو أمر بات معهودا فى الآداب العالمية كلها.

من هنا ذهبت المحكمة الدستورية العليا فى واحد من مبادئها إلى: «أن أكثر ما يهدد حرية التعبير. أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها، وإلا يفرض أحد على غيره صمتاً ولو بقوة القانون Enforced Silence وتذهب المحكمة وبحسم إلى أن حرية التعبير التى كفلها الدستور هى القاعدة فى كل تنظيم ديمقراطى لا يقوم إلا بها. ولا يعدو الإخلال بها أن يكون إنكار الحقيقة. إن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة منها». (الدعوى رقم 6 لسنة 15 قضائية دستورية الصادر فى 15 أبريل 1995). ولا شك فى أن هذا الحكم وغيره أساسي فى دعم حرية التفكير والخيال والتعبير فى حياتنا السياسية والثقافية المصرية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟