المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

العنف والفوضى وصخب الخطابات السياسية

الخميس 24/مارس/2016 - 09:35 ص

اللغة هى العالم، لأن إدراكه، وفهمه وتحليله، وتطوره يتم من خلال اللغة، وبدونها لا يوجد اتصال أو تبادل للأفكار أو المعانى أو الرموز، لأن الأفكار هى اللغة، فلا توجد فكرة خارج اللغة، لأن النظريات اللغوية والاتصالية القديمة، والتى لا تزال شائعة لدينا، أن الفكرة توجد أولا ثم تحملها اللغة لكى تعبر عنها، بعد ثورة الألسنيات- اللغويات- العظمى التى طورت العلوم الاجتماعية، أصبحت الفكرة هى اللغة ولا انفصام بينهما، ومن ثم تطورت النظريات على نحو هائل، وتمددت النظريات والمفاهيم الألسنية حول النص، ثم الخطاب، والسرديات بعد ذلك، لتشكل نقلة نوعية فى تطور العلم الاجتماعى فى الأدب والسياسة والقانون والاجتماع بكل فروعه، والتحليل الثقافى، على نحو أدى إلى تحول كيفى فى مناهج دراسة هذه العلوم على اختلافها انطلاقا من ثورة اللغة ونظرياتها ومناهجها. هذه المقدمة الوجيزة ترمى إلى الإشارة إلى أى مدى تدهورت اللغة العربية خلال العديد من العقود الماضية، بعدما شهدت تطوراً كبيراً فى قاموسها اللغوى، ودخول مفردات جديدة مع تطور الأنماط الحديثة، واستعارة المفردات والمصطلحات الغربية وتعريبها، لاسيما منذ نهاية القرن التاسع عشر، من خلال اللغة القانونية والسياسية والفلسفية، ثم فى علم الاجتماع. تطور مهم حدث، وذلك على الرغم من بعض الأعطاب المستمرة مُذّاكَ حتى الآن فى دقة ترجمة وتعريب بعض هذه المصطلحات والمفاهيم إلى لغتنا العربية. من ناحية أخرى، لا تزال اللغة العربية تعانى العديد من المشكلات حتى تنطلق مثلها مثل اللغات الكبرى الحية وعلى رأسها الإنجليزية والاسبانية والفرنسية، ومن ثم تحتاج إلى تطوير فى البنُى النحوية، وفى رفدها المستمر بالمفردات والترجمات على نحو سريع لاغنائها، من ناحية أخرى تطوير أساليبها وتحريرها من الأساليب القديمة لاسيما تلك التى يغلب عليها الاطناب والتكرار والبلاغة الجوفاء.. الخ. صحيح أن بعض كبار كتاب العربية وشعرائها ومثقفيها قاموا بدور كبير فى السعى إلى تحريرها من القوالب اللغوية النمطية القديمة والتجديد فى أساليبها ومجازاتها، إلا أن تدهور مستويات تعليم اللغة العربية ومناهجها فى مدارسنا أدى إلى تدهور فى نوعية لغة الخطاب- أيا كان حقله العلمى أو السياسى أو الثقافى- وهو ما يظهر فى خطاب النخبة الحاكمة والمعارضة والمثقفة والإعلامية.. الخ، الذى يتسم بالركاكة والتناقضات والمفردات والأساليب اللغوية والبيانية التقليدية التى يغُلب عليها الشعاراتية، أو اللغة الخشبية الجوفاء فاقدة المعانى والدلالات، ومن ثم تبدو لغة مفارقة للظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، أى لغة بعيدة عن الواقع الموضوعى ومحمولاته وبنياته على اختلافها، ولا تشكل اختراقاً للأفكار المتخلفة والقديمة التى لم يعد لها دور سوى إعادة إنتاج التخلف التاريخى الذى نرفلُ فى دوائره.

نحن نعيش فى فضاء من المفردات والمجازات والأفكار القديمة التى تحملُها هذه الأنماط اللغوية والخطابية، ولا تستطيع أن تجد فارقا نوعيا بين لغة بعض الخطابات الحزبية المعارضة أو الحكومية وبعضها بعضاً، ولا تمايزات حقيقية فيما بينها، بل يجمع بينها السطحية والتعميمات الجامحة، والماينبغيات، والانفصال بينها وبين البحوث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجادة والموضوعية والعميقة عن واقع المشكلات المصرية الممتدة والمركبة، وطبيعة التحولات فى البنية الاجتماعية. من الملاحظ أيضا أن هذه الخطابات- والبيانات- تبدو بعيدة عن لغة ومصطلحات العالم العولمى وما بعده، إنها على أكثر تقدير لغة- ستينية وسبعينية، وبعضها تُداخله اللغة الأيديولوجية الماركسية والناصرية والقومية القديمة، مع بعض من اللغة الحقوقية لجماعات حقوق الإنسان، وبعض النثارات الاصطلاحية الليبرالية الغربية القديمة. بعض هذه الخطابات تتناص مع بعض مصطلحات لغة الأمم المتحدة ومنظمات التمويل الدولية العامة والحيادية التى يعتريها بعض الغموض الممتحل، دونما فحص أو تعمق فى مدى جدواها وصلاحيتها فى الإطار المصرى بسماته ومشكلاته وتعقيداته. لغة جوفاء تتأسس عليها خطابات مستقيلة عن مواجهة الواقع وتحولاته وتغيراته وإشكالياته على المستوى المعولم وما بعده، والإقليمى والوطنى. هى لغة تتداخل فيها الأحكام الأخلاقية، والقيمية، والأمنيات التى تخايلُ صناع هذه الخطابات. الأخطر أنك لا تلحظ شخصية كل خطاب وانتمائه السياسى والاجتماعى وتحيزاته إلا قليلاً من خلال بعض المفردات التى يوشّىَ بها النصُ/ الخطاب ويجملُ كجزء من الأناقة اللفظية السوقية للخطاب، اللغة العربية عموما فى محنة لأنها تتدهور لمصلحة العامية، والخضوع للإنتاج الانشائى والبيانى لمنتجى الخطاب. من ناحية أخرى، السوق اللغوى بات يحفلُ بالفوضى اللغوية، والركاكة، والشعارات والبذاءة اللغوية التى تقترب من لغة الشارع المنفلت والمتحرر من مقتضيات اللياقة الاجتماعية، والتى يقارب فيها لغة السب والقذف واللغة العارية ذات المحمولات الجنسية أو انتهاك ما كان يطلق عليه المحرم الجنسى أو الدينى، من ثم نحن إزاء عنف باللغة وعليها، وبعض فقدان المعانى والدلالات، والنزعة لإطلاق الأحكام المطلقة حول أمور وظواهر وحقائق نسبية، والأحكام الأخلاقية واللا أخلاقية فى صياغات حاملة لتعميمات جامحة. وثمة غياب للمنطق الذى يحكم بنية الخطاب أيا كان مجاله ونسبه ومنتجه. وهو خطاب سياسى واجتماعى هروبى من مواجهة ذاته بنية ومرجعية ومنطوقاً، لأن منتجى هذا الخطاب يلجأون إلى اللغة الدينية على نحو عشوائى فى محاولة لإكساب الخطاب جاذبية وقبولاً واحتراماً ورضا لدى الجماعات المستهلكة للخطاب، وأيضا لرفع المسئولية عن الذات ذأو الذوات- المنتجة للخطاب فى الالتزام والعزم على العمل الجاد والإنجاز السياسى فى الواقع الحى. نحن إزاء حقل من الرداءة اللغوية/ الفكرية التى تبدو من العنف اللغوى الطليق، الذى ينتج التوتر والاحتقانات والكآبة والبلبلة والنزاعات السياسية والاجتماعية والدينية والطائفية والكراهية. من هنا نستطيع أن نلحظ بعض الاستياء الممزوج بالغضب لدى بعض المتلقين، وشيوع بعض الاستياء والضجر وعدم الرضا يجتاح قلة قليلة جدا من النخبة إزاء بعض الخطابات السياسية والاجتماعية السائدة، والعنف الذى ينطلق منها ومن واقعها الفعلى أو الافتراضى / الرقمى، وخاصة من ضحالة بنيات ومرجعيات ومضامين ومستهدفات هذه الخطابات العنيفة وطابعها السجالى والهجائى والاقصائى الذى يفتقر إلى عمق المعالجات لمشاكلنا الحادة، أو الوجل مما تظهره هذه الخطابات المنفلتة من الألفاظ المدببة والحادة والأوصاف الجارحة التى تميلُ إلى التشهير بالخصوم وإيذائهم. من هنا يسهم عنف اللغة والخطاب فى إنتاج العنف المادى الاجتماعى والسياسى والرمزى الذى يجتاحنا ويربكنا ويشوش العقل والإدراك الجمعى.. وا أسفاه! 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟