المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح

الجماعة القضائية والدولة الحديثة وحماية الحريات

الخميس 19/مايو/2016 - 04:24 م

لعبت الهندسات القانونية الوضعية الحديثة أحد أبرز مداخل بناء الدولة القومية على عهدى محمد على وإسماعيل باشا، وذلك على عديد المستويات، ومنها: 1- وضع القوانين المدنية والجنائية والتجارية.. الخ التى تنظم وتضبط العلاقات القانونية والاجتماعية، وفق أنساق مكتوبة ومعروفة مسبقاً، وبعيداً عن نظم المكانة والأعراف، إلى مراكز وقواعد قانونية موضوعية وإجرائية تنظم مصالح الأفراد، على نحو يؤدى إلى الاستقرار القانونى والاجتماعى.

2- شكلت القوانين الحديثة - المستعارة من المرجعيات الأوروبية اللاتينية - أساس انتقال الاقتصاد المصرى إلى نمط العلاقات الرأسمالية، ومن ثم تم دمج الاقتصاد فى بنية الرأسمالية الدولية على عهد إسماعيل باشا.

3- مأسسة أجهزة الدولة الإدارية، ومن ثم تشكيل البيروقراطية المصرية وخبراتها فى إدارة الدولة.

4- تكوين الجماعات القانونية الحديثة من الفقهاء وعلماء القانون، والقضاة، والمحامين، وبعض بيروقراطى أجهزة الدولة.

لا شك أن هذا الدور التاريخى والتأسيسى أسهم فى تطوير الهندسة الاجتماعية الحديثة وعلاقاتها وشبكاتها وتفاعلاتها حول عمليات بناء المدن وأنسجتها المعمارية وفضاءاتها الحداثية - الكوزموبولتيانية - حول القاهرة، والإسكندرية وبورسعيد.. الخ. وحول هذه المدن الحديثة نشأت السياسة والنخب الحداثية، لأن السياسة هى ابنة المدينة، وعلاقاتها وثقافتها وتنظيمها، وليست ابنة الأرياف والترييف فى نظم القيم والمفاهيم والروابط الاجتماعية الأولية، وتثاقل العلاقة مع الزمن والإنتاج.. إلخ. وذلك لعديد الأسباب على رأسها ما يلى:

1- تكوينها القانونى الغربى - وفى نطاق العلوم الشرعية أيضاً - جعلها على اتصال وثيق بالفكر القانونى الدستورى والسياسى الليبرالى، ومن ثم بالأطر الفلسفية والثقافية للقيم الديمقراطية الحديثة من خلال معرفة اللغات الفرنسية أساساً، والإنجليزية والإيطالية لدى بعضهم، على نحو أتاح لهم الإطلاع المستمر على أمهات المراجع الدستورية والقانونية الغربية اللاتينية، والجديد الذى يصدر فى الفروع المختلفة، على نحو رفد العقلين التشريعى والقضائى بالاتجاهات الجديدة فى القانون المقارن، وإطلاع القضاة على المبادئ القضائية التى استقر عليها القضاء الفرنسى، والإيطالى، لاسيما أن الأجيال المؤسسة كانت جزءاً من القضاء المختلط قبل اتفاقية مونتريه، وكان غالبيتهم يصدرون أحكامهم باللغة الفرنسية. بعض القضاة المؤسسين للجماعة القضائية الحديثة والأجيال اللاحقة كانوا يؤلفون الكتب مع بعض فقهاء القانون، بعضهم كانوا من ذوى المواهب الإبداعية كالقاضى الرسام الكبير محمود سعيد، وآخرين ترجم بعضهم بعضا من الكتب المهمة، كفتحى زغلول باشا الذى ترجم سر تقدم الإنجليز الأنجلو ساكسون لديمولان على سبيل المثال، وبعضهم كان شاعرًا أو يكتب الرواية أو يقتبس بعض الروايات الأجنبية، ويقدمها ممصرة ليتم إخراجها سينمائياً.. الخ.

2- قامت الجماعة القانونية بتشكيل أحد أبرز روافد تشكيل النخبة السياسية والحزبية، وقادة بارزين فى البرلمان وتشكيل الحكومات فى المرحلة شبه الليبرالية وما بعدها.

3- لعب القضاة دورًا مهمًا فى أقلمة وتوطين القوانين مع التقاليد والقيم الاجتماعية والثقافة المصرية. حرصت الجماعة القضائية تاريخيًا - ما قبل 1952، وحتى نظام يوليو بمراحله المختلفة - على استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وذلك على الرغم من القيود القانونية التى وردت بقوانين السلطة القضائية المتعاقبة، وأشكال الضغوط المختلفة، ومذبحتى القضاة الشهيرتين، إلا أن إدراك القضاة لدورهم واستقلاليتهم كان دائمًا حاضرًا. من هنا لابد من استصحاب هذه الخبرات المهمة فى مواجهة عديد المشكلات الراهنة، وعلى رأسها ضرورة إجراء تعديلات تشريعية على قانون السلطة القضائية لمزيد من الاستقلالية للسلطة القضائية والقضاة عن السلطة التنفيذية، وفى مواجهة أى ضغوط أو إغراءات أو مزايا تقدمها لهم لاسيما فى ظل اضطراب الأوضاع السياسية. الإصرار على عدم تسييس القضاء والأحكام الصادرة عنه تحت أى ضغط أو إغواء وذلك استمرارية وتأصيلاً للاستقلالية والإرث التاريخى العتيد. من ناحية أخرى الامتناع عن إبداء الآراء السياسية من بعض القضاة فى وسائل الإعلام على نحو ما كان يتم فى المراحل الانتقالية بعد 25 يناير 2011، وضرورة تفعيل وتطوير معهد الدراسات القضائية مع المعاهد الدولية المقارنة فى تأهيل أعضاء النيابة والقضاة الجدد لمواجهة فجوة تراجع مستويات التكوين فى كليات الحقوق والشريعة والقانون، وإعداد ورش العمل لمستويات أخرى لمتابعة التطورات فى التشريعات والمبادئ القضائية المقارنة، وفى نظم التحول الديمقراطي، وذلك لإعادة الجسور مع التقاليد المقارنة التى ترفد العقل القضائى بالجديد. إن نظرة تحليلية مقارنة بين مستويات الخطاب القضائى والأحكام وبنية الحيثيات والبلاغة والمجازات القانونية بين الأجيال المختلفة للقضاة تشير إلى تراجع واضح، بين المستويات الرفيعة المقام لبلاغة العقل القانونى للقضاة، وبين بنية التسبيبات الراهنة لدى بعضهم، وهو ما يعود إلى المستوى التكوينى والثقافى واللغوى لشيوخ القضاة وأجيالهم المتعاقبة، وبين المستويات الراهنة كجزء من التعليم السائد فى كليات الحقوق وما اعتراه من تراجع عن ذى قبل.

ومن الصحيح أن يقال أيضًا إن ثمة من شيوخ القضاة على درجة عالية من التكوين والرصانة والحكمة لأنهم يمثلون استمرارية للتقاليد العريقة ولمتابعتهم للجديد فى المعرفة والتغير الاجتماعي.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟